فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (8):

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}
قلت: {يوم}: معمول لخبر ليس، وهو دليل جواز تقديمة إن كان ظرفاً.
يقول الحق جل جلاله: {ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ} الموعود في الدنيا، أو في الآخرة، {إلى أمة} أي: أوقات معدودة قلائل، {ليقولن}؛ استهزاء: {ما يحْسبُه}؟ أي: ما يمنعه من الوقوع الآن؟ {ألا يوم يأتيهم} وينزل بهم كيوم بدر، أو يوم القيامة {ليس مصروفاً عنهم} ليس مدفوعاً عنهم حين ينزل بهم، {وحاقَ}؛ نزل وأحاط {بهم ما كانوا به يستهزئون}، وضع الماضي الاستقبال؛ تحقيقاً للوقوع، ومبالغة في التهديد.
الإشارة: إمهال العاصي بإهمال له؛ فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل. فإمهاله إما استدراج، أو انتظار لتوبته، فليبادر بالتوبة قبل الفوات، وبالعمل الصالح قبل الممات. فما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (9- 11):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
قلت: {ولئن}: شرط وقسم، ذكر جواب القسم، واستغنى به عن جواب الشرط.
يقول الحق جل جلاله: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمةً} أي: أعطيناه نعمة يجد لذتها. {ثم نزعناها منه} أي: سلبنا تلك النعمة منه {إنه ليؤوسٌ}؛ قنوط، حيث قلَّ رجاؤه من فضل الله؛ لقلة صبره، وعدم ثقته بربه، {كفور}: مبالغ في كفران ما سلف له من النعم، كأنه لم ير نعمة قط. {ولئن أذقناه نعماءَ بعد ضراء مسَّتْه}؛ كصحة بعد سقم، وغنى بعد فقر، أو علم بعد جهل، {ليقولنَّ ذهب السيئاتُ}. أي: المصائب التي مستني، {عني}، ونسي مقام الشكر. {إنه لفرح} أي: بطر متعزز بها، {فخورٌ} على الناس، متكبر بها، مشغول بذلك عن شكرها، والقيام بحقها. قال البيضاوي: وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على ان ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفر والبطر بأدنى شيء؛ لأن الذوق: إدراك المطعم، والمس مبدأ الوصول إليه. اهـ.
{إلا الذين صبروا} على الضراء؛ إيماناً بالله، واستسلاماً لقضائه، {وعملوا الصالحات} شكراً لآلائه، سابقها ولاحقها، {أولئك لهم مغفرة} لذنوبهم، {وأجر كبير} أقلة الجنة، وغايته النظرة. والاستثناء من الإنسان؛ لأن المراد به الجنس. ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعله منقطعاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يكون شاكراً للنعم، صابراً عند النقم، واقفاً مع المنعم دون النعم. إن ذهبت من يدة نعمة رَجَى رجوعها، وإن أصابته نقمة انتظر انصرافها. والحاصل: ان يكون عبداً لله في جميع الحالات.
حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال: يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. قال: إنك لا تطيق ذلك، فخر ساجداً متضرعاً، فقال: يا ابن عمران؛ إن رضاي في رضائك بقضائي. اهـ. وقال ابن عباس رضي الله عنه أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، فمن استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ رباً سوائي. اهـ. ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من رزقهن خير الدنيا والآخرة: الرضا بالقضاء، والصبر على الأذى، والدعاء في الرخاء. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 14):

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
يقول الحق جل جلاله: لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فلعلك تارك بعضَ ما يُوحى إليك}، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين، مخافة ردهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه. فالعصمة مانعة من ذلك. فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك شيئاً من الوحي إلا بغله، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ في المستقبل. ولو قوبل بالإنكار.
ثم قال له: {وضائق به صدرُكَ}؛ أي: ولعله يعرض لك في بعض الأحيان ضيق في صدرك، فلا تتلوه عليهم مخافة {أن يقول لولا أُنزل عليه كنز} ينفقه للاستتباع كالملوك، أو يستغني به عن طلب المعاش، {أو جاء معه ملكٌ} يشهد له، والقصد تسليته صلى الله عليه وسلم عن قولهم، حتى يُبلغ الرسالة ولا يبالي بهم. وإنما قال: {ضائق}؛ ليدل على اتساع صدره صلى الله عليه وسلم، وقلة ضيقه في الحال. {إنما أنت نذير} ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، ولا عليك ردوا أو اقترحوا، فلا يضيق صدرك بذلك. {والله تعالى على كل شيء وكيل} فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
{أَمْ}؛ بل {يقولون افتراه} أي: ما يوحى إليه، {قل} لهم: {فأتوا بعشر سُورٍ مثِلهِ} في البيان وحسن النظم. تحداهم أولاً بعشر سور، فلما عجزوا سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كل واحد. {مُفتريات}؛ مختلفات من عند أنفسكم، إن صح أني اختلقته من عند نفسي؛ فإنكم عرب فصحاء مثلي. {وادعوا من استطعتم من دون الله} للمعاونه على المعارضة، {إن كنتم صادقين} أنه مفترى. {فإن لم يستجيبوا لكم}؛ فإن عجزوا عن الإتيان، {فاعلموا} أيها الرسول المؤمنون {إنما أُنزل بعلم الله}؛ بإذنه، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب. والمعنى: دوموا على إيمانكم، وزيدوا يقيناً فيه.
قال البيضاوي: وجمع الضمير؛ إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم، فكان أمر الرسول عليه الصلا ة والسلام متناولاً لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا خصه الدليل. أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم. ولذلك رتب عليه قوله: {فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله}؛ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، لأن العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره. {وأن لا إله إلا هو}؛ لظهور عجز آلهتهم. {فهل أنتم مسلمون}؟ ثابتون على الإسلام، راسخون مخلصون فيه، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً.
ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين، والضمير في {يستجيبوا} لمن استطعتم، أي: فإن لم يستجيبوا لكم، أي: من استعنتم به على المعارضة لعجزهم، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة، {فاعلموا} أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة؟ وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ؛ لما فيه معنى الطلب، والتنبيه على قيام الموجب، وزوال العذر. اهـ.
وقال في الوجيز: فإن لم يستجيبوا لكم؛ من تدعون إلى المعاونة، ولا تهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليكم الحجة، {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} أي: أنزل والله عالم بإنزاله، وعالم أنه من عنده، {فهل أنتم مسلمون}؟ استفهام، معناه الأمر، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]. اهـ.
الإشارة ينبغي لأهل الوعظ والتذكير أن يعمموا الناس في التذكير، ولا يفرقوا بين أهل الصدق، وأهل التنكير. يل ينصحوا العباد كلهم، ولا يتركوا تذكيرهم، ومخافة الرد عليهم، ولا تضيق صدورهم بما يسمعون منهم، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد قال لقمان لابنه حين أمره بالتذكير {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17]، فإن طلبوا من المذكر الدليل فليقل: إنما أنا نذير، والله على كل شيء وكيل: فإن قالوا: هذا الذي تذكر كلنا نعرفه، فليقل: فأتوا بسورة من مثله، أو بعشر سور من مثله. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (15- 16):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}
قلت: «ما صنعوا فيها»: الضمير يعود على الدنيا، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة، ويتعلق الظرف بحبط، أي: حبط في الآخرة ما صنعوا من الأعمال في الدنيا.
يقول الحق جل جلاله: {من كان يريد} بعمله {الحياةَ الدنيا وزينتَها}، فكان إحسانه وبره رياء وسمعَة، {نُوفّ إليهم أعمالَهم فيها} أي: نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا، من الصحة والرئاسة، وسعة الأرزاق، وينالُون ما قصدوا من حمد الناس، وإحسانهم وبرهم، {وهم فيها لا يُبخسون} لا يُنقصون شيئاً من أجورهم، فيحتمل: أن تكون الآية نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم؛ كما ورد في حديث الغازي والغني القارئ المرائين، وأنهم أول من تُسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت في الكفار، وهو أليق بقوله: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ}؛ لأنهم استوفواما تقضيه صور أعمالهم الحسنة، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. {وحَبِطََ ما صنعوا فيها} أي: في الدنيا فكل ما صنعوا في الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة في انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص، {وباطلٌ ما كانوا يعملون}؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
الإشارة: في الحديث: «مَن كَان الدُّنيا هَمَّه: فَرَّق اللَّهُ عَليْهِ أَمْرَهُ، وجَعَل فَقْرَه بَينَ عَينَيه، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيا إلا ما قُسِمَ له. ومن كَانت الآخرةُ نيته: جمعَ اللَّهُ عَليه أَمْرَه، وجَعَل غَناهُ في قَلبِه، وأَتتهُ الدُّنيا وهِي صَاغِرة».
قلت: ومن كان الله همه كفاه هَم الدارين. فطالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن دار الفانية، وعلق قلبك بالدار الباقية، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص، وإياك وملاحظة الناس؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس، وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (17):

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}
قلت: {أفمن كان}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جل جلاله: {أفمن كان على بينةٍ}، طريقة واضحة {من ربه} وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، كمن ليس كذلك، ممن همه الدنيا؟! والمراد بالبينة: ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ، أي: على برهان واضح من ربه، وهو الدليل العقلي؛ والأمر الجلي. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما ياتيه ويذره، {ويتلُوه}؛ ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل، {شاهدٌ منه} أي: من الله يشهد بصحته، وهو: القرآن، لأنه مصباح البصيرة والقلب؛ فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
{ومن قبله} أي: من قبل القرآن، {كتابُ موسى} يعني: التوارة، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة: القرآن، والشاهد: جيريل عليه السلام، أو عَلِيٌّ كرم الله وجهه، أو الإنجيل، وهو حسن، لقوله: {ومن قبله كتابُ موسى}؛ فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية: وهنا اعتراض؛ وهو أن الضمير قي {قبله} عائداً على القرآن، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل وهو قبله وبينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال عنه: أنه خَصَّ التوراة بالذكر؛ لأن الملّتين متفقتان على أنها من عند الله، والإنجيل قد خالف فيها. فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} [الاحقاف: 30]. وقول النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاه واحدة»،. اهـ. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.
ثم وصف التوراة بقوله: {إماماً}. أي: مؤتماً به في الدين، لأجله، {ورحمةً} على المنزل عليهم. {أولئك} أي: من كان على بينة من ربه، {يُؤمنون به} أي: بالقرآن، {ومن يكفرْ به من الأحزاب}: كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فالنارُ موعده} يدخلها لا محالة، {فلا تكُ في مريةٍ}؛ شك {منه} أي: من ذلك الموعد، أو القرآن، {إنه الحقُ من ربك} الثابت وقوعه، {ولكن أكثرَ الناس لا يؤمنون}؛ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم.
الإشارة: لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما: التوبة النصوح، والثاني: الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان بينة من ربه. وهي درجات؛ أولها: بينة ناشئة عن صحيح النظر ولاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم: أهل الدليل والبرهان. وثانيها: بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب.
وهم: العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها: بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله:
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ ** والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ

لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم ** فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ

والنَّاسُ في غفلَةٍ عَمَّا يَراد بِهِم ** فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ

وقال في القوت: {أفمن كان على بينة من ربه} أي: من شهد مقام الله عز وجل بالبيان، فقام له بشهادة الإيقان، فليس هذا كمن زُين له سُوء عمله، واتبع هواه، فآثره على طاعة مولاه. بل هذا قائم بشهادته، متبع لشهيده، مستقيم على محبة معبوده. اهـ. وقال الورتجبي: تقدير الآية على وجه الاستفهام: أفمن كان على بينة من ربه؛ كمن هو في الضلالة والجهالة؟ أفمن كان على معرفة من ربه، وولاية وسلامة وكرامة، وكل عارف إذا شاهد الحق سبحانه بقلبه وروحه، وعقله وسره، فأدرك فيض أنوار جماله، وقربه، يؤثر ذلك في هيكله حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع، ويراه كل صاحب نظر، قال تعالى: {ويتلوه شاهد منه}، والبينة: بصيرة المعرفة، والشاهد: بروز نور المشاهدة منه. وأيضاً: البينة: كلام المعرفة. والشاهد: الكتاب والسنة. ثم قال عن الجنيد: البينة: حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. اهـ.
والحاصل: أن البينة أمر باطني، وهي: المعرفة، إما بالبرهان، أو بالعيان، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلِّ في محله، الباطن منور بالحقائق، والظاهر مُؤيد بالشرائع. وهذا غاية المطلوب والمرغوب. رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنِّه وكرمه.